MENA Fem Movement for Economical, Development and Ecological Justice

تداعيات سياسات التقشف على برامج الحماية الاجتماعية للنساء

مى صالح

بريتون وودز والاستعمار الاقتصادي

يعود تسمية مؤسسات بريتون وودز إلى اتفاقية بريتون وودز التي نتجت عن مؤتمر حضره ممثلو 44 دولة عام 1944 في نيوهامشاير بالولايات المتحدة الأمريكية، واستهدفت هذه الاتفاقية وضع الخطط من أجل “استقرار النظام المالي العالمي” وتشجيع إنماء التجارة بعد الحرب العالمية الثانية.

ونتج عن هذه الاتفاقية إنشاء منظمتين دوليتين وهما: صندوق النقد الدولى، والبنك الدولى للإنشاء والتعمير، ثم إنشاء منظمة التجارة العالمية في مرحلة لاحقة، وشهدت هذه المؤسسات تطورات كبيرة على مدار السنوات الماضية.

ويعكس بريتون وودز نظام إدارة نقدي أسس قواعد للعلاقات التجارية والمالية بين الدول الصناعية الكبرى في العالم في منتصف القرن العشرين، حيث كان نظام بريتون وودز أول نموذج لنظام نقدي قابل بالكامل للتفاوض يهدف إلى تنظيم العلاقات بين الدول المستقلة.

تعتبر المؤسسات المالية الدولية ومن أهمھا البنك وصندوق النقد الدوليين ، أكبر مصدر لتمويل عمليات “التنمية” في العالم حيث يصل حجم الإقراض إلى ما بين 40 مليار و50 مليار دولار أمريكي سنويًا توجه إلى الدول منخفضة ومتوسطة الدخل ، حيث تقوم هذه المؤسسات بأدوار مختلفة تتمثل في توفير القروض،والمنح للحكومات وذلك من خلال تطبيق برامج التثبيت لصندوق النقد الدولي ، وبرامج التكييف الھيكلي للبنك الدولي . وتتضمن برامج التكييف الھيكلي للبنك الدولي ثلاث محاور رئيسية هي : تحرير الأسعار ، حرية التجارة والتحول نحو التصدير ، خصخصة القطاع العام. وكانت مصر من أوائل الدول التي انضمت إلى البنك الدولي عام 1945 وفي عام 1999 حصلت مصر على قروض مستفيدة من نافذة إقراض البنك التي تخدم الدول منخفضة الدخل ، إلا أن مصر تعتبر حاليا من بين الدول متوسطة الدخل ولھا القدرة على أن تقترض مبالغ ضخمة من البنك الدولي للإنشاء والتعمير ولكنھا لم تعد مؤهلة للحصول على قروض بدون فائدة أو منح من المؤسسة الدولية للتنمية[1] ، و تقع مصر في المرتبة الثانية عالمياً كأكثر الدول المقترضة من صندوق النقد بإجمالي 10.85 مليار دولار، خلف الأرجنتين والتي وصل حجم ديونها للصندوق 30.98 مليار دولار، وتحتل أوكرانيا المركز الثالث في القائمة، بدين مستحق قدره 9 مليارات دولار في سلسلة متواصلة من الاستدانة والاقتراض والإفقار والاستعمار ، حيث مرت بلدان مثل مصر وتونس والمغرب والأردن بسيناريو واحد تقريبا مع الصندوق .

الحماية الاجتماعية

الحماية الاجتماعية هى حق  أصيل من حقوق الانسان ويجب ان تشمل جميع المواطنين فى كل مراحل الحياة  ولكن برامج الحماية الاجتماعية في المنطقة برامج هشة وضعيفة وتقوم على الاستهداف وبالتالى هى غير عادلة واشتراطات المؤسسات المالية الكبرى جعلت الحكومات تتجه إلى تخفيض بنود الإنفاق الاجتماعى فى الموازنات العامة كأحد تدابير التقشف في مقابل زيادة حصة بند فوائد الدين العام وما يترتب عليه من ضعف خدمات الأمومة والطفولة وزيادة نسبة مساهمة المدفوعات المباشرة للأفراد على الخدمات العامة الاساسية ، بالاضافة الى ان اشتراطات ومعايير الحصول على الدعم النقدى المشروط هى بحد ذاتها غير ملائمة وتعرض النساء لمزيد من التمييز .

لا يوجد تعريف موحد للحماية الاجتماعية بين المنظمات الدولية وخاصة المؤسسات التنموية ومؤسسات التمويل الدولى .. وتتفاوت نظرة المؤسسات بين بعضها البعض حول وجوبية الانتباه إليها وقت تصميم برامج الإصلاح المرتبطة بتمويل التنمية ، وتعتبر منظمة العمل الدولية صاحبة أفضل وأشمل تعريف للحماية الاجتماعية من وجهة نظر حقوق الإنسان حيث عرفتها على أنها مجموعة من السياسات والبرامج المصممة لتقليل ومنع الفقر والضعف طوال دورة الحياة ، تشمل الحماية الاجتماعية مزايا للأطفال والأسر والأمومة والبطالة وإصابات العمل والمرض والشيخوخة والعجز والناجين وكذلك الحماية الصحية ، تعالج أنظمة الحماية الاجتماعية جميع مجالات السياسة هذه من خلال مزيج من المخططات الاشتراكية ( التأمين الاجتماعى ) والمزايا الممولة من الضرائب غير القائمة على الاشتراكات بما في ذلك المساعدات الاجتماعية .

بينما يتبنى صندوق النقد الدولى تعريفا مبهما حول الحماية الاجتماعية ويخلط أحيانا بينها وبين الإنفاق الاجتماعى ولا يملك توصيفًا لقياسها وإن وجد فهو لا يقوم به بعد تطبيق البرامج والإجراءات التى يشترط تنفيذها فى اى دولة .

وتقع منطقة الدول العربية في مرتبة متأخرة من حيث الحماية الاجتماعية وفقا لأى من تعريفاتها الواسعة أو الضيقة ، فوفقًا لحسابات منظمة العمل الدولية لا يحصل سوى 8.7 % فقط من العاطلين فى دول المنطقة على إعانات بطالة بينما يبلغ المتوسط العالمي أكثر من ضعف تلك النسبة . كما لا تحظى سوى 13% من الأمهات والأطفال الرضع في المنطقة بالتغطية الملائمة من برامج الحماية الاجتماعية ويبلغ المتوسط العالمى أربعة أضعاف تلك النسبة [2].

وتقع الحماية الاجتماعية فى صميم العدالة الاقتصادية النسوية. وتعتمد النساء أكثر من الرجال على الحماية الاجتماعية مثل استحقاقات تربية الاطفال. ويؤثر عدم القدرة على تحمل تكاليف السلع الاساسية تأثيرا سلبيا على النساء أكثر من غيرهن، لأنها غالبا ما تكون المشتري الرئيسي للادوات المنزلية والغذاء للأسر على وجه الخصوص. إن التخفيضات في الإنفاق الاجتماعي التي تؤثر في توفير الرعاية الاجتماعية – مثل إعانات الأطفال – لها عواقب مباشرة على النوع الاجتماعي إذ تديم العنف الهيكلي من خلال إفقار النساء وأسرهن لاسيما في أوقات الأزمات.

وتؤدي تدابير التقشف، مثل خفض المساعدات، والاستعاضة عن نظم الحماية الاجتماعية الشاملة بشبكات الأمان الاجتماعي، وخفض الإنفاق العام، وزيادة الضرائب غير المباشرة، إلى تفاقم اللامساواة الهيكلية، ولها في نهاية المطاف آثار غير متكافئة على النساء. لذا فإنه من الاهمية بمكان إنشاء أو تعزيز نظم شاملة للحماية الاجتماعية قبل الالغاء التدريجي للمساعدات.

وعلى الرغم من ذلك، فإن تدابير التخفيف التي تفضلها المؤسسات المالية الدولية تشمل توسيع “شبكات الأمان الاجتماعية”  مثل برامج التحويلات النقدية، التي تستهدف “الفقراء”ً بدلا من أن تكون ّ شاملة فحسب. وعلى هذا النحو، فإنها تخاطر باستبعاد قطاعات واسعة من الأشخاص الذين تمس بهم الحاجة إلى الضمان الاجتماعي ولكنهم لا يندرجون، لسبب أو لآخر، ضمن المعايير التي جرى اختبارها ّ من حيث الوسائل. ومن الاهمية بمكان معرفة  أن الوصول إلى برامج التحويلات النقدية قد يكون صعبا على النساء. ففي الأردن، على سبيل المثال، تتلقى %1.27 فقط من الأسر التي ترأسها نساء مساعدات من صندوق المعونة الوطنية مقارنة مع %5.93 من الأسر التي يرأسها رجال .[3]

وفى مصر بالرغم من أن 76% من حاملي بطاقات المشاركة في برنامج تكافل وكرامة من النساء  باجمالى 2.7 مليون سيدة – إذ توثق الإحصاءات الرسمية وجود نحو 12 مليون امرأة معيلة من إجمالي عدد السكان منهن 26.3 % تحت خط الفقر-  .إلا أن هذه النسبة  فى حد ذاتها تدل على غياب النساء عن سوق العمل وهو ما يعكس هشاشة وضعهن الاقتصادي الذي يعتمد على التحويلات النقدية المشروطة – التي تعتبر بعض معاييرها اصلا تكريسا للعنف والتمييز ضد النساء بحسب الأعراف الاجتماعية بينما قيمتها المادية لا تذكر – بدلا من إدماجهن في نظام التأمينات الرسمي القائم على الاشتراكات،بينما لم يحرز إدماج النساء فى المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر تغيرا ملحوظا في أوضاعهن الاقتصادية والاجتماعية ، حيثما تقوم هذه المشروعات على التنافسية غير المدروسة والحلول الفردية للفقر على حساب الحلول الجماعية والتعاونيات كبدائل مستدامة لتعزيز العدالة الاجتماعية .

الأثر المركب لسياسات التقشف على اوضاع النساء

مما لا شك فيه أنه  يمكن للتحويلات النقدية أن تضع عبئا كبيرا على كاهل النساء، فالتحويلات النقدية المشروطة المرتبطة بالالتحاق بالمدارس، على سبيل المثال، تضع على عاتق النساء مسؤولية أكبر من تلك التي تقع على عاتق الرجال، ويمكن أن تكون التوترات الناشئة عن المعايير الاجتماعية المرتبطة بالنوع  الاجتماعي الضارة التي يقوم عليها ذلك أيضا سببا للعنف القائم على النوع الاجتماعيّ . وبالتالي فإن إلغاء الإنفاق الاجتماعي الذي يبقى  الحماية الاجتماعية الشاملة قائمة على أساس النوع الاجتماعي هو  نتيجة عنيفة،لاسيما فى مواجهة ارتفاع أسعار المواد الأساسية اليومية

ففيما يتعلق بمعدلات الإنفاق وصل معدل الإنفاق على الطعام والشراب فى مصر على سبيل المثال  من 50-60% من إجمالي الدخل للفئات الفقيرة والأشد فقرًا، كما تعتبر مصر من أعلى الدول من ناحية نسبة مساهمة المدفوعات المباشرة للأفراد (الإنفاق من الجيب مباشرة) في إجمالي الإنفاق الجاري على الصحة على سبيل المثال والتي  تبلغ نحو  64% ، وهي نسبة تقترب من ضعف المتوسط العالمي بسبب خصخصة الخدمات.[4]   بالإضافة إلى أنه خلال العقد ونصف الماضي تقلص بند الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية من موازنة ٢٠٠٩ إلى موازنة ٢٠٢٣  من ٣٦ % من إجمالي المصروفات العامة إلى ١٧ ،% بيما زاد حصة بند فوائد الدين العام من إجمالي المصروفات عن نفس الفترة من ١٥ % إلى %٣٣ [5]

وتنعكس السياسات الاقتصادية الحالية على الحياة اليومية للنساء فى  دخلهن، ّ ومسؤولياتهن في الرعاية، وقدرتهن على الوصول إلى الخدمات الضرورية وتظهر جليا فى خفض الإنفاق الصحي والحماية الاجتماعية وخلال العامين 2023 و2024 ارتفعت معدلات التضخم بسبب القرارات الاقتصادية  حيث وصل المعدل السنوى للتضخم الأساسى فى مصر وفقا لبيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى فبراير 2024 إلى 31.9 %  [6]وهو ما يستوجب إعادة النظر في أنظمة الحماية الاجتماعية الحالية إذ يتم تحديد المستفيدين باستخدام الاختبار غير المباشر لتقصي الموارد والسجل الاجتماعي، الذي يقوم على تقدير الدخل عن طريق أصول وخصائص الأسرة. وقد ثبت واقعيًا أن هذا الأسلوب ليس دقيقًا بما يكفى حيث يبلغ متوسط الاستبعاد فى عملية تحديد أفقر 10 % من السكان حوالى 70 % وهو ما ترتب عليه بالفعل أن النسبة الأكبر من الفقراء فى مصر لم يتم ادراجهم فى برنامج تكافل[7]، على عكس البرامج الشاملة للحماية الاجتماعية .

ووفقًا لتقرير البنك الدولي نفسه، بلغت التغطية التأمينية الخاصة لسنة 2021 حوالي 2.4 مليون مستفيد منهم 0.4 مليون مستفيد فقط من العمالة غير المنتظمة أي أقل من 2.5 % من حجم العمالة غير المنتظمة المقدر ب 60 % والتى تمثل النساء منها حوالى النصف .

هل من بدائل للإصلاح الاقتصادى ؟

يجدر بنا الآن أن نسأل سؤالا بديھيًا: هل تقبل كل الدول شروط الصندوق لتحسين اوضاعھا الاقتصادية أم هناك خيارات أخرى؟ ففي ماليزيا رفض ماهتير محمد خطة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لمواجھة الأزمة المالية التي عصفت بدول جنوب شرق آسيا في عام 2000-1999 ولھذا أقدمت ماليزيا بدءًا من 1986 على وضع إستراتيجية وطنية للتنمية، وفي عام 2008 كان ترتيب الاقتصاد الماليزي 29 عالميًا من حيث اتساع الاقتصاد بناتج محلي إجمالي 397.5 مليار دولار وبمعدل نمو سنوي 4.6 % وبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 15700 دولار، وبمعدل تضخم %5.8 والسكان تحت خط الفقر %3.5 وفي تركيا صرح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بأن الھدف الأول لحكومته هو تنفيذ البرنامج الاقتصادي بحذافيره حتى نھاية عام 2004 وأن تركيا بعد هذا التاريخ ستواصل سيرها بجھودها الذاتية دون الحاجة إلى عقد اتفاقيات خاصة مع صندوق النقد الدولي. وقد نما الاقتصاد التركي بمعدل سنوي مركب مقداره 8.4 في المائة ليصل إلى 724.2 مليار دولار في عام 2010 بعد أن كان 52 مليار دولار في عام 1998 ، وأصبح من أكبر الأسواق الناشئة في أوروبا دون المساس بالفئات المهمشة .

[1]الخدمات العامة المستجيبة للنوع الاجتماعي، مى صالح ، أكشن ايد ، 2017

[2] مظلات للجميع ، الدليل الشامل لبرامج الحماية الاجتماعية ، سلمى حسين ، فريدريش ايبرت ، 2022

[3] بطش التقشف، دانا عابد وفاطمة كيليهر ، اوكسفام نوفيب ، 2022

[4] الحقّ في الصحة في مصر: اللامساواة وغياب الإنصاف في الصحة قبل وخلال كوفيد-19 في مصر- أحمد عزب ، الشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية للتنمية ، 2023

[5] تقرير برامج الحماية الاجتماعية فى مصر ، محمد سلطان ، شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية ، مسودة لم تنشر بعد

[6] كيف يعيش الفقراء فى ظل الغلاء : أثر ارتفاع الاسعار وتخفيض الجنيه على حقوق المصريين ، مى قابيل ، وائل جمال ، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ، 2023

[7] أى نظام  للضمان الاجتماعى فى مصر : نحو قطيعة مع نموذج القرن التاسع عشر ، ستيفن كيد ، حلول للسياسات البديلة ، 2019

 

مي صالح

مديرة برنامج المرأة والعمل والحقوق الاقتصادية في مؤسسة المرأة الجديدة في مصر، والمنسقة الوطنية للشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية للتنمية في لبنان. ومديرة مشروع تعزيز دور النقابات العمالية والجمعيات الأهلية فى تفعيل أجندة التنمية المستدامة من منظور النوع الاجتماعي.

أعمل في المجتمع المدني المصري منذ عام 2005، ومجال اهتمامي الرئيسي هو قضايا العمل والعدالة الاجتماعية والاقتصاد النسوي، ولدي بعض المساهمات حول الحماية من تأنيث الفقر في ظل سياسات التقشف، كما أن لدى اهتمام خاص بقضايا المرأة الريفية والعاملات الزراعيات في ظروف عمل هشة ومجحفة.

أعمل كباحثة ومدربة حرة فى مجال النوع الاجتماعي والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للنساء، كما أقوم حاليًا بتنسيق حملة دفاعية لنشر وتفعيل الاتفاقية 190 الصادرة عن منظمة العمل الدولية بشأن العنف والتحرش في عالم العمل ومطالبة الحكومة المصرية بالتصديق عليها.