تأملات نسوية حول المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية
بقلم: غريس أرينا، مبادرة الضرائب النسوية الإفريقية (TJNA/NAWI)
تُعد “خارطة طريق الرباط” المنبثقة عن اللقاء النسوي العالمي- وهي مبادرة بارزة قادتها نسويات من الأغلبية العالمية ونظمتها كل من منظمة MENAFem وWEDO في لرباط، المغرب في ماي 2025- وثيقة طموحة تدعو إلى الإلغاء غير المشروط للديون المستحقة على بلدان الجنوب العالمي، وتخصيص منح لتمويل المناخ ودعم المبادرات النسوية والمجتمعية، وبناء اقتصاد عالمي ديمقراطي قائم على التعاون بين بلدان الجنوب، وإنهاء هيمنة الشمال العالمي على المؤسسات المالية. وتدعو الخارطة إلى اقتصادات قائمة على الرعاية، والاستدامة، والرفاه، والعدالة. وكنا نأمل أن يشكل المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية نقطة انطلاق لتحول جذري وبداية لنهج مالي عالمي جديد. لكن، للأسف، لم تحقق نتائج المؤتمر ما كنا نطمح إليه.
أولاً، تم اعتماد “التزام إشبيلية”، الوثيقة الرسمية الختامية للمؤتمر، قبل انطلاقه، وهو أمر يثير القلق، إذ أتاح المجال لتخفيف البنود الجوهرية نتيجة لمواقف غير نزيهة من بعض دول الشمال العالمي. كما اتسمت عملية الاعتماد بالغموض، والمفاوضات المغلقة، وانعدام الشفافية والمساءلة، مما قوض مصداقية الوثيقة. ويعكس هذا الوضع الهيمنة السائدة والطابع الإقصائي للنظام المالي العالمي الحالي، الذي يفتقر إلى آليات عادلة لتقاسم السلطة، والمساءلة، والنزاهة. وهو ما يبرز الحاجة الملحة لإصلاح شامل.
في إشبيلية وخارجها، اجتمعت منظمات المجتمع المدني، بما في ذلك الحركات القاعدية، والنقابات، والمنظمات النسوية، والمجموعات الأصلية، والمبادرات الشبابية، قبل انعقاد المؤتمر، لتوجيه رسالة واضحة وعاجلة مفادها أن “اتفاق إشبيلية” يمثل فشلًا سياسيًا وخيانة لأولئك الذين يواجهون الأزمات البنيوية بشكل مباشر. وأكد البيان أن التغيير الجذري ضروري، من خلال إعادة تشكيل البنية المالية الدولية لتكون قائمة على حقوق الإنسان، ومعارضة سياسات التقشف، وتكريس الحوكمة الاقتصادية العالمية الديمقراطية. كما شددوا على ضرورة أن تكون عملية اتخاذ القرار في جميع المؤسسات المالية الدولية ديمقراطية وتحت قيادة الأمم المتحدة.
ثانيًا، يُعد إنشاء نظام ضريبي عالمي عادل وشامل، من خلال الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة بشأن التعاون الضريبي الدولي، خطوة محورية لوقف السياسات الضريبية العالمية المهيمنة، والحد من الانتهاكات الضريبية التي ترتكبها الشركات والأفراد ذوو الثروات الكبيرة، وضمان أن تكون الأنظمة الضريبية قائمة على حقوق الإنسان، وموجهة نحو تقديم الخدمات العامة، وتتبنى نهجًا تصاعديًا ومستجيبًا للنوع الاجتماعي. وقد قادت بلدان الجنوب العالمي، وعلى رأسها مجموعة إفريقيا، جهود إصلاح النظام الضريبي الدولي، حيث طالبت بلغة أكثر قوة في الوثيقة الختامية خلال الاجتماعات التحضيرية والمداولات البينية لمؤتمر تمويل التنمية الرابع ، إلا أن هذه المطالب أُضعفت في النص النهائي.
ثالثًا، فيما يتعلق بالديون وسياسات التقشف، فقد أظهرت المسودة الأولى للوثيقة الختامية بعض الطموح، لكن “التزام إشبيلية” أفرغ اللغة المقترحة من قبل مجموعة إفريقيا، وتحالف الدول الجزرية الصغيرة، وإعلان لومي الصادر عن الاتحاد الإفريقي من مضمونها. وعلى الرغم من الدعوة إلى إطلاق عملية حكومية دولية، فإن الاتفاق يفتقر إلى التزام فعلي بالإصلاح، ويقتصر على توصيات غير ملزمة. كما أن الوثيقة حرصت على الإبقاء على الوضع القائم، إذ لم يُطرح إلغاء الديون كخيار، ولا تزال حكامة الديون بيد المؤسسات المالية الدولية، التي تُعد من أبرز مسببي الديون غير المستدامة وسياسات التقشف القاسية التي تُبقي بلدان الجنوب العالمي في دوامة الاستدانة.
إن اعتماد اتفاقية ملزمة للأمم المتحدة بشأن الديون السيادية بات ضرورة ملحة، لضمان وجود آلية متعددة الأطراف لإعادة هيكلة الديون بشكل عادل وشفاف، وتوفر عمليات إلغاء ديون لصالح الدول المقترضة على نحو أسرع وأكثر إنصافًا وتنظيمًا. ويجب أن تضمن هذه الآلية أن تكون عملية الإلغاء عادلة وشفافة، وتضع في صلبها حقوق الإنسان، والحماية الاجتماعية، والمساواة بين الجنسين، والهشاشة المناخية، والتنمية المستدامة.
أما التجارة، فهي قضية محورية أخرى لم تُعالج بالشكل الكافي في الوثيقة الختامية. فمن الضروري أن تحترم القواعد التجارية العالمية السيادة الوطنية، وأن تتماشى مع أهداف التنمية المستدامة . كما أن الطابع المتسارع للتجارة الرقمية في إفريقيا يتطلب تنظيمًا عادلًا. إذ تتوسع منصات العمل الرقمي في قطاعات اقتصادية حيوية، مثل النقل، والعمل المنزلي، والرعاية، والإشراف على المحتوى. غير أن هذه الأشكال الجديدة من العمل تعاني من مظاهر ظلم مستمرة، مثل الهشاشة، وسهولة الاستغناء عن العاملين، والعنف، وهي تؤثر بشكل غير متناسب على النساء والفئات الضعيفة الأخرى. كما أن الاعتقاد بأن الاقتصاد الرقمي بطبيعته شامل هو تصور مضلل، إذ إنه في الواقع يعزز هيمنة الشركات على البيانات والتكنولوجيا وسبل العيش، بينما يقوّض في الوقت ذاته حماية الحقوق والمساحات الديمقراطية.
فمن أجل دعم المساواة الجندرية، والعمل اللائق، والسيادة، وتطوير الصناعات المحلية، لا بد من دمقرطة حكامة التجارة العالمية، بما يضمن إشراك أصوات أوسع من بلدان الجنوب العالمي. كما يجب أن تتناول هذه الحكامة قضايا مثل العنف القائم على النوع الاجتماعي في التجارة عبر الحدود، من خلال اعتماد بروتوكولات حماية تصون سلامة وكرامة جميع النساء العاملات في هذا المجال. إلى جانب ذلك، ينبغي مراجعة قواعد الملكية الفكرية العالمية لضمان الوصول العادل إلى المنافع العامة. كما يجب أن تتبنى أطر الحكامة مبادئ السيادة على البيانات، وتعزيز الوصول المنصف إلى التكنولوجيا، وتوسّع الشمول الرقمي للنساء والفتيات والفئات المهمشة.
وتُكرّس الوثيقة الختامية للمؤتمر هيمنة التمويل الخاص، من خلال الترويج لما يُعرف بـ”التمويل المدمج” كوسيلة لتنويع مصادر التمويل وزيادة الاعتماد على رأس المال الخاص. غير أن هذا التوجه يؤدي إلى تحويل الخدمات العامة الأساسية إلى سلع، ويزيد من أعباء الديون السيادية، مما يفاقم الأوضاع في بلدان الجنوب العالمي ويؤثر سلبًا على الفئات الضعيفة، التي تُحوَّل إلى أدوات لتحقيق الأرباح لصالح الشركات الكبرى. لذا، يجب إعادة توجيه تمويل التنمية ليكون عامًا، متمحورًا حول الإنسان، ويخدم الصالح العام.
في الوقت نفسه، تواصل الدول الغنية تقليص ميزانيات المساعدات الإنمائية الرسمية والتنصل من التزاماتها، بينما تزيد من إنفاقها العسكري. إن تحويل التعاون الإنمائي نحو أهداف أمنية يُكرّس التفاوت والعنف. ومع ذلك، تغيب الإشارة في الوثيقة الختامية إلى العسكرة أو الإنفاق العسكري أو الحروب، رغم استخدامها كأدوات للهيمنة على الأراضي والأسواق، لا سيما تلك الغنية بالمعادن الحيوية. ولطالما نبهت الحركات النسوية إلى الآثار غير المتكافئة للنزاعات على النساء والفتيات والفئات الضعيفة الأخرى، اللواتي يتعرضن للعنف، والنزوح، والحرمان من الخدمات الأساسية، ويواجهن مخاطر متزايدة من العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك العنف الجنسي الذي يُستخدم كسلاح حرب. لذا، يجب إعادة تعريف مفهوم الأمن العالمي ليُعطي الأولوية للسلام بدلًا من الاستغلال والعنف.
وفي الوقت الذي ينحرف فيه الشمال العالمي عن أجندة المساواة بين الجنسين ويواصل تركيزه على الإنفاق الدفاعي، ينبغي على الأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها أن تلتزم بدعم تمويل نسوي على مستوى المنظومة الأممية، موجّه إلى منظمات النساء، والمبادرات التي تقودها الفتيات، ومنظمات المجتمع المدني، من أجل تعزيز الرعاية، والاستدامة، والرفاه، والعدالة.
وأخيرًا، لا بد أن يستجيب تمويل التنمية لعدالة المناخ والبيئة، وأن يتصدى لأزمة المناخ من خلال تحوّل اقتصادي هيكلي قائم على العدالة المناخية والتعويضات. كما يجب أن يعالج بشكل جوهري قضية “العمل الرعائي”، وهو عنصر أساسي في إعادة الإنتاج الاجتماعي، يشمل الإنجاب البيولوجي، والبقاء اليومي، وتراكم التعليم والمهارات اللازمة للمشاركة في الاقتصاد الرأسمالي، واكتساب المهارات المنزلية الضرورية لاستمرار الأنظمة الأبوية والرأسمالية. ويجب أن تكون الرعاية الركيزة الأساسية للسياسات الاقتصادية والتنموية، وأن تُدمج في التخطيط الاقتصادي الكلي.
ورغم خيبة الأمل من نتائج مؤتمر تمويل التنمية، فإن الأمل لا يزال قائمًا. فقد جاءت “خارطة طريق الرباط” في لحظة حاسمة، وأساسية لدفع عجلة العدالة الاقتصادية والمناخية. إنها وثيقة تدعو إلى إحلال العدالة من خلال تحدي النظام المالي العالمي الاستغلالي والمدمّر بيئيًا والمنتهك لحقوق الإنسان. وتؤكد أن العدالة الحقيقية تتطلب تحرير أنظمتنا الاقتصادية وحكامتنا من السيطرة الإمبريالية، وبناء نظام عالمي جديد قائم على السيادة، والتضامن، والمساواة الجندرية.