تونس وبرنامج الإصلاح الهيكلي
بعد اتباع سياسة قائمة على الانفتاح ولبرلة الاقتصاد منذ المرحلة الثالثة للسياسات الاقتصادية بداية من السبعينات، عرفت تونس في الثمانينات أزمة اقتصادية تميّزت بعجز في الميزانية بلغ نسبة 5,2% بين 1981 و1986 نتيجة لتراجع الصادرات تحت تأثير انخفاض أسعار المواد الأولية كما بلغت النفقات مستوى 40% من الناتج المحلي الإجمالي في 1985-1986 ونسبة الدين 63% من الناتج المحلي الإجمالي في 1986. وقد شرعت تونس في تطبيق إجراءات تقشفية نوّه بها صندوق النقد الدولي حتى تلك المتعلقة برفع الدعم عن الخبز والتي أدت إلى ثورة الخبز سنة 1984. حيث عبّر البنك عن رضاه بالإجراءات التقشفية قبل برنامج الإصلاح الهيكلي ودعا لتطبيق إصلاحات أكثر ليبرالية[1]، ومثّلت الأزمة الشّاملة فرصة للمؤسسات المالية العالمية لفرض برنامج الإصلاح الهيكلي[2] والذي تضمّن عدة اجراءات[3]:
- رفع القيود عن الاقتصاد والتوجه نحو مناخ يوفر أكثر حرية للأسواق بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية في محاولة للحد من عجز ميزان الدفعات
- تغيير كبير في النظام الضريبي مع إدخال الضريبة على القيمة المضافة وخفض شرائح الضريبة على الدخل الفردي
- خصخصة المؤسسات العمومية
- خفض الإنفاق العام (بما في ذلك الدعم) لإيجاد حيز في الميزانية يسمح بسداد الديون
- بداية تحرير الأسعار وأسعار الفائدة وسعر صرف الدينار بالتوازي مع خصخصة البنوك وفتح القطاع البنكي للخواص[4]
كانت نتيجة هذا التوجه انطلاق مرحلة من السياسات الاقتصادية تهدف إلى إدماج تونس في الاقتصاد العالمي واتباع النمط الليبرالي الذي يسعى لخفض تدخل الدولة في الاقتصاد وخفض الإنفاق العام بما في ذلك في قطاعات حيوية كالصحة والتعليم. وقد واصلت تونس منذ هذا البرنامج سياسة الانخراط في العولمة عبر اتفاقيات كاتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 الذي اعتمد مبادئ التبادل الحر لعدد من القطاعات تمهيدا لاتفاق تبادل حر شامل حاولت الحكومة التونسية والاتحاد الأروبي تمريره سنوات الانتقال الديمقراطي.
وقد عادت تونس لعقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي سنة 2013 والتزمت نتيجة لذلك على امتداد العشرية الفارطة بجملة من “الإصلاحات” وهي التوصيات التي يفرضها الصندوق كوصفة جاهزة في كل السياقات، يلخّص الجدول التالي أبرزها:
المصدر: البوصلة – عقد من التقشف (2022)
تفاقم اللامساواة الاجتماعية والجندرية
وكان من نتائج هذه “الإصلاحات” ارتفاع اللامساواة بشكل عام بين أصحاب الدخل المرتفع والشرائح الشعبية وتتبلور هذه اللامساواة بشكل أكبر في علاقة بالجندر وحقوق النساء. على سبيل المثال، أدى خفض الانفاق في القطاع العمومي وسياسة الحد من الانتداب إلى عدم توفر الأطباء بالشكل الكافي حيث لا يتجاوز عدد الأطباء لل10000 ساكن نسبة 12,9[5] وهو مؤشّر ضئيل مقارنة بالدول ذات الدخل المتوسط (الشريحة العليا) أين يبلغ 25 طبيب لل10000 ساكن وبالدول ذات الدخل المرتفع أين يتجاوز الـ35[6].
كما أن هذا المؤشر غير كاف لتبيّن الحالة الصعبة للخدمات الصحية حيث تبلغ نسبة الأطباء في القطاع العمومي 6 أطباء لل10000 ساكن[7] وهي متوزعة بشكل غير متوازن بين المناطق الساحلية والداخلية، كما يبلغ المعدل الوطني لأطباء الاختصاص 6,63 طبيب لل10000 ساكن سنة 2019 وتسجل هذه النسبة أدنى مستوياتها في الجنوب الغربي %1.9 و في الشمال الغربي 1,8% و الوسط الغربي %1,6، و تتفاقم التفاوتات حسب الاختصاصات حيث لا يتجاوز مؤشر كثافة أطباء النساء والتوليد 2.91 طبيب لل10000 ساكن وتؤدي هذه المؤشرات إلى وضعيات خطيرة كتواصل غياب أي طبيب مختص في النساء والتوليد في ولاية تطاوين لعدة سنوات.
ويمثّل القطاع العمومي السبيل الوحيد للولوج للخدمات الصحية لدى غالبية المواطنين.ات نظرا لارتفاع تكلفة العلاج في القطاع الخاص والإشكاليات التي يعرفها نظام التأمين الصحي في تونس.
لا يوفر نظام الحماية الاجتماعية التغطية الصحية لجميع المواطنين والمواطنات حيث تشير الأرقام إلى أن 17% لا يتمتعون بأي تأمين صحي[8] وتعدّ هذه الإشكالية إحدى تبعات إصلاحات المؤسسات المالية الدولية التي تفرض أنظمة التحويلات المباشرة عوض دعم الخدمات الأساسية بشكل شامل. هذه التحويلات النقدية زيادة عن فشلها في استهداف جميع مستحقيها لا تأخذ بعين الاعتبار البعد الجندري حيث توجّه للأسر لا للأفراد ويتلقاها “رب الأسرة” وهو آليا الزوج حسب القانون التونسي. خلال جائحة كوفيد، تم تحويل 250 مليون دينار إلى 623000 من الأسر الفقيرة التي تأثر دخلها بالجائحة وبإجراءات الحجر الصحي، ذهبت 86,5% منها إلى أرباب الأسر من الذكور[9].
على مستوى أشمل، تأخذ اللامساواة الاجتماعية بعدا جندريا في عديد الجوانب:
- تأنيث الفقر والبطالة: تكمن مشكلة تقدير نسبة الفقر لدى النساء بدقة في أن البيانات الوطنية في معظم أنحاء العالم بما في ذلك تونس تحتسبه اعتمادا على الأسر فلا تكون نسب الفقر مصنّفة حسب الجنس. مع ذلك، يظهر التحليل المتعدد المستويات للفقر في تونس أن الأسر التي يرأسها الذكور أقل عرضة بـ34% للفقر المدقع من الأسر التي ترأسها الإناث[10]. من جهة أخرى، تعاني النساء من البطالة بشكل أكثر من الرجال حيث تبلغ نسب البطالة 22% لدى لإناث مقابل 13,6% لدى الذكور[11]. كما أن نسبة النساء لا تتجاوز 30,3%[12] من الناشطين لأسباب هيكلية ولهذه الظاهرة عواقب اجتماعية كتحمّل العمل المنزلي والانقطاع عن الدراسة وعدم التمتع بالتغطية الاجتماعية بصفة مباشرة، حيث تشير دراسة لمنظمة انترناشيونال ألرت[13] حول ولوج الشباب والشابات للصحة إلى أنّ 40,1% من الشابات المتمتعات ببطاقة علاج متحصّلات عليها باسم القرين ما يقلّص من استقلالية النساء المالية والاجتماعية.
- فجوة الأجور والولوج لمراكز القيادة: تعتبر النساء أكثر تمثيلا في الوظائف الاجتماعية الأساسية كالصحة أين يمثّلن نسبة 63,4% من العاملين لكن 39% فقط من المراكز القيادية[14] كما تمثل غالبية العمالة في القطاع الفلاحي (58%) ولكن 4% فقط من مالكي الأراضي. لا تمثّل تونس استثناء بالنسبة لفجوة الأجور بين الجنسين في القطاع الخاص حيث تبلغ نسبة %35,5 في القطاع غير المنظم و25,4% في القطاع الخاص المنظم[15].
- العمل غير مدفوع الأجر: كما هو الحال على المستوى الدولي، تدهور خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية (كرعاية كبار السن، حاملي الإعاقة والأطفال) الناتج عن سياسات التقشف يتحول إلى عمل منزلي غير مدفوع الأجر تتحمّله النساء. على سبيل المثال أثناء جائحة كوفيد، تمّ إقرار الحجر الصحي في مارس 2020 وأغلقت بموجبه مرافق وخدمات الرعاية بما في ذلك رعاية المسنين وحاملي الإعاقة وقد تحمّلت النساء عبء هذه الخدمات.
- تدهور الولوج للصحة الجنسية والإنجابية[16]: نتج عن خفض الإنفاق العام في المجال الصحي بفعل التقشف تدهور الخدمات الصحية بشكل عام وبالخصوص منها مؤشرات الصحة الجنسية والإنجابية التي تأثرت بنقص مخزون الأدوية وضعف الاستثمار في حملات التوعية حول الصحة الجنسية. على سبيل المثال، بين 2014 و2015 عرفت نسبة استخدام خدمات تنظيم الأسرة ركودا مقلقا حيث لم تتجاوز 0,8% على المستوى الوطني في حين سجلت تقهقرا في عديد الجهات كالقصرين (-24,8%) وتطاوين (-21,6%) ومنوبة (-21,1%)[17]. من جهة أخرى انخفض معدل استخدام وسائل منع الحمل من 62.5 ٪ سنة 2012 إلى 50.7 ٪ سنة 2019 كما انخفضت أيضا في نفس الفترة الحاجة إلى وسائل منع الحمل من 90 %إلى 71,9 %. كما اختفت بعض وسائل منع الحمل من الأسواق لمدة تتجاوز العامين (بين عامي 2016 و2019) وشمل نقص المخزون أيضا حبوب منع الحمل وحبوب الصباح الموالي وأدوية الإجهاض.[18]
هكذا ساهمت سياسات اتقشف في تفاقم اللامساواة الاجتماعية في علاقة بالفقر والبطالة والولوج للخدمات الأساسية، ويأخذ هذا الحيف طابعا جندريا حيث ينضاف للتمييز والعنف الاقتصادي المهيكل الذي تتعرض له النساء ويجعله أكثر حدّة. وكغيرها من الحالات في المنطقة وفي العالم، تثبت الحالة التونسية أن التصدّي لسياسات مؤسسات بريتون وودز هي قضية نسوية بالأساس.
[1] Murphy, E. (1999) Economic and Political Change in Tunisia: From Bourguiba to Ben Ali. London: Macmillan Press LTD, p. 74.
[2] The impact and influence of international financial institutions on the economies of the middle east and North Africa, ed. By Tarek Radwan (2020)
[3]منظمة البوصلة (2023): التقشف: ضرورة أم بؤس يمكن تفاديه
[4] Moore, C.H. (1991) ‘Tunisian Banking: Politics of Adjustment and the Adjustment of Politics’ in Zartman, I.W. (edited by Tarek Radwan) Tunisia: The Political Economy of Reform. SAIS African Studies Library, pp. 70-71
[5] المنظمة العالمية للصحة، أرقام 2021
[6] المنظمة العالمية للصحة، أرقام 2021
[7] أرقام المعهد الوطني للإحصاء تونس 2021
[8] أرقام وزارة الشؤون الاجتماعية التونسية (2016)
[9] هيئة الأمم المتحدة للمرأة المرأة التونسية في مواجهة كوفيد 19 أثناء وبعد الولادة (جوان 2020) ص9
[10] Amara, M., Jemmali, H. Household and Contextual Indicators of Poverty in Tunisia: A Multilevel Analysis. Soc Indic Res 137, 113–138 (2018). https://doi.org/10.1007/s11205-017-1602-8
[11] الثلاثي الأول – سنة 2024: أرقام المعهد الوطني للإحصاء
[12] الثلاثي الأول – سنة 2024، أرقام المعهد الوطني للإحصاء
[13] منظمة انترناشيونال ألرت (2024): أثر سياسات التقشف على ولوج الشباب إلى خدمات الصحة
[14] هيئة الأمم المتحدة للمرأة (2020)، تم ذكره
[15] نفس المصدر
[16] منظمة البوصلة (نوفمبر 2022): التقشف المرض المزمن للصحة العمومية
[17] منظمة انترناشيونال ألرت (2019): تقييم مجتمعي للخدمات الصحية العمومية بولاية تطاوين: تشخيص و بدائل، الصفحة 34
[18] جمعية بيتي: تقرير عاجل-كوفيد 19- مارس-أفريل-ماي 2020” كوفيد 19- كاشف عن عامل التفاوتات المتعددة الجوانب تجاه المرأة وتفاقمه