العدالة الإيكولوجية الغائبة عن النساء: نساء الحوز وأعباء اقتصاد الرعاية الخفي
تظهر الكوارث الطبيعية ما ظلّ غائبًا لسنوات في خلفية الحياة اليومية. فهي لا تُدمّر المباني وحدها، بل تكشف أيضا هشاشة البُنى الاجتماعية التي يقوم عليها الاستمرار، وتدفع الفئات الأكثر تهميشًا إلى مقدّمة المشهد. وفي المغرب، كما في أماكن كثيرة عبر العالم، ليست النساء مجرد “ضحايا زلزال”، بل هنّ الفاعلات غير المرئيات في ضمان بقاء الحياة بعد الكارثة. لذلك، لا يمكن فهم آثار زلزال الحوز دون النظر إلى الاقتصاد الصامت الذي تبنيه النساء داخل البيوت والحقول، وإلى علاقتهن بالتعليم والأرض والحق في الوجود داخل السياسات العمومية.
لا يمكن النظر إلى انهيار المنازل بعد حادثة الزلزال الأليمة بمعزل عن السياق الاجتماعي الذي يؤنث العمل المنزلي لا سيما في العالم القروي الذي يشهد انقطاع أكثر من نصف الفتيات عن الدراسة قبل البكالوريا (52%) بسبب غياب النقل المدرسي؛ فكلما زادت المسافة ينقص احتمال الاستمرار الدراسي عند الإناث، ويرتفع خطر الدفع نحو العمل المنزلي المبكر أو الزواج القسري كاستراتيجية نجاة اقتصادية داخل الأسر، وخاصة عندما يكون الدخل محدودا.
إن انهيار المنازل في الحوز قد زاد من عمق الأزمة، فمن جهة أدى تضرر المؤسسات التعليمية إلى تراجع حضور الفتيات في الفصول المؤقتة، حيث أصبحت المسافة نحو المدرسة شرطًا يحدد مستقبل الطفلات، ومن جهة أخرى؛ فإن هذا الانهيار هو انهيار للاقتصاد المنزلي القائم على عمل النساء والذي يشكل 70% من النشاط الاقتصادي العائلي، لأن المنزل في القرى الجبلية يمثل وحدة إنتاج يومي يقوم على تدبير الماء والغذاء والرعاية والتخزين وتربية المواشي الصغيرة، وهو اقتصاد لا يظهر في الحسابات الوطنية ولا يدخل ضمن معايير التعويض ولا أنظمة الحماية، ما يجعل الخسارة غير مرئية رغم كونها الخسارة الوحيدة التي تضمن بقاء الحياة بعد الكارثة، ومع توقف هذه البنية الإنتاجية، تحولت النساء إلى المسؤول الوحيد عن إعادة تنظيم شروط الحياة اليومية من خلال السير لمسافات أطول لجلب الماء في ظل طرق متضررة، والبحث عن الموارد القليلة المتاحة لتأمين الدواء والغذاء، وتدبير السكن القائم على الخيام أو بنايات مؤقتة غير مجهزة للخصوصية، ومواجهة ضغط نفسي وجسدي متواصل دون أي تعويض عن الجهد المضاف، لأن المنظومة القانونية لا تعترف أصلا بأن هذا الجهد هو شكل من أشكال العمل.
الدولة تستثمر في المراكز والساحل، وتترك الجبال تعيش وفق “اقتصاد الصمت”، حيث يعتبر عمل النساء بديهيا ولا يحتاج إلى أنظمة دعم، ويُعامل استمرار الحياة وكأنه نتيجة طبيعية لا تستحقّ التنظيم، بينما الحقيقة أن استمرار الحياة كان وما يزال نتيجة مباشرة لعمل نسائي غير معترف به، وعندما تتعرض البنية المادية لهذا الاقتصاد لصدمة، فإن النتيجة تكون نقل تكلفة التعافي بالكامل إلى من تم تجاهل قيمتهن في الأصل.
إلى جانب الخسائر المباشرة التي أحدثها الزلزال، تظهر المعطيات المتعلقة بالأرض وطريقة تدبيرها حدود النموذج التنموي المفروض على المناطق الجبلية منذ عقود؛ فسياسات تفكيك أنماط الولوج إلى الأرض، عبر التقليل من قيمة الفلاحين الصغار ودفع السكان نحو أنشطة خدماتية هشة تحت ضغط الهجرة، جعلت النساء في موقع هش داخل اقتصاد غير مستقر: الأرض لم تعد مصدرا للأمن المعيشي بل عبئًا غير مضمون الحقوق، حيث ترتبط الملكية في القرى الجبلية بعلاقات عرفية لا تمنح للنساء حقًا واضحًا أو حماية قانونية عند النزاعات أو الكوارث، ومع تقلّص المساحة الصالحة للزراعة، وتراجع المردودية بسبب التغيرات المناخية ونضوب المياه السطحية، أصبحت العائلة الريفية مجبرة على تقسيم أدوار العيش بين “من يهاجر إلى المدينة” و“من يبقى لتأمين الغذاء اليومي”، وفي الأغلب ما تتولى النساء القيام بهذا الدور الأخير.
الآن بعد حادثة الزلزال تضررت هذه المعادلة: لقد توقفت القرى عن إنتاج ما تحتاجه الأسر، وتضرر دخل المهاجرين الذين كانت تعتمد عليهم القرى عبر التحويلات، وبقيت النساء، مرة أخرى، في الواجهة دون حماية، يحافظن على تماسك الأسرة في غياب الموارد.
إن إعادة الإعمار التي لا تعيد الاعتبار لحق السكان في الأرض، ولا تعتبر الفلاحة الصغيرة جزءًا من سياسة الأمن المعيشي، ستؤدي إلى تسريع ما بدأ قبل الزلزال: تفريغ المناطق الجبلية من ساكنتها، وتجريد النساء من موقعهن الاقتصادي، وتحويل القرية إلى بقايا مجال دون قدرة على إعادة الإنتاج الاجتماعي للحياة؛ وما يهدد هذه المناطق اليوم ليس فقط إمكانية وقوع زلزال جديد، بل أن تبقى الأرض نفسها خارج أي تصوّر للعدالة، وأن تبقى النساء مجبرات على حمل اقتصاد لم يعترف به أبدًا بينما يجري تقرير مصيرهن في المراكز الحضرية.
إن ما يجب استخلاصه اليوم هو أن العنف البنيوي لا يبدأ عند لحظة الكارثة ولا ينتهي بانتهاء الطوارئ، بل يتجسد في كيفية توزيع مسؤولية النجاة والقدرة على الاستمرار، وفي من يدفع الثمن ومن يقرر المستقبل؟.