من ساحات النزاع إلى موازنات الدولة
في العديد من دول المنطقة، لا ينتهي العنف بمجرد توقف النزاع أو تراجع حدّة المواجهات المباشرة؛ بل يعاد تشكيله داخل بنى اقتصادية واجتماعية تبدو محايدة لكنها تعيد إنتاج الضرر بطرق تبدو أكثر هدوءًا واستمرارية. وتُعدّ الديون وسياسات التقشّف من أهم الآليات التي يتحوّل عبرها العنف من شكله المباشر إلى عنف بنيوي طويل الأمد. فهذه السياسات، التي تُقدَّم عادة بوصفها إصلاحات اقتصادية أو مساعي نحو الاستقرار، تعمل على خلق بيئة من الندرة الممنهجة، حيث يُعاد ترتيب الموارد الأساسية للحياة العامة بطريقة تجعل النساء الأكثر تأثرًا بتبعاتها.
يمثل العنف الناتج عن الديون والتقشّف عملية تراكمية تُمارس تأثيرها يومًا بعد يوم عبر اختلال الخدمات الأساسية وارتفاع تكاليف العيش وتراجع دور الدولة في الرعاية. تمثل هذه السياسات عنفًا من شأنه إعادة تشكيل الحدود المتاحة للحياة نفسها، حيث تقييد إمكانيات النساء في الوصول إلى الرعاية الصحية، وفي العمل والتنقل، وفي الحفاظ على الأمن المعيشي. ومع انسحاب الدولة من وظائفها الاجتماعية، يُعاد نقل عبء الرعاية إلى المجال الخاص، حيث يؤدّى هذا العمل غير المدفوع غالبًا من قبل النساء، مما يؤدي إلى زيادة الضغط على أوقاتهن وأجسادهن وقدرتهن على الحفاظ على استقلالهن الاقتصادي والنفسي.
وحين تتجاوز كلفة خدمة الدين الإنفاق على الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، تتحوّل السياسات المالية إلى بنية تتحكم في توزيع الندرة بشكل غير متكافئ. في ظل هذه الظروف، تتقلّص إمكانية الوصول إلى الغذاء الكافي مع اتساع الهوّة بين الأسعار والدخل، وتصبح الرعاية الصحية والتنقل مشروطين بالقدرة الاقتصادية، بينما يتراجع الأمان المعيشي تدريجيًا نتيجة تفكك شبكات الحماية العامة وانعدام بدائل عادلة. وبدلًا من أن تكون هذه التحولات مجرد آثار جانبية للأزمة، تتحول إلى جزء من بنية حكم تُنتج مستويات مركّبة من الحرمان تقع ثقّلها الأكبر على النساء بسبب موقعهن داخل الاقتصاد الاجتماعي للرعاية.
وفي الدول الخارجة من النزاعات أو تلك التي تشهد أزمات ممتدة، يصبح العنف الاقتصادي استمرارًا للعنف العسكري بوسائل مختلفة. فحتى حين يسود ما يوصف بالاستقرار، تظل التبعات الاقتصادية للنزاع، من تضخم وبطالة وانهيار في الخدمات، تؤسس لواقع صعب تصبح فيه النساء في موقع أكثر هشاشة مما يجعل الوصول إلى الموارد والحماية وفرص الحياة الكريمة أكثر تعقيدًا، مما يضعف قدرة النساء على الصمود.
وهكذا، تعيد الديون والتقشّف إنتاج اللامساواة عبر الزمن، من خلال تكثيف عبء الرعاية غير المدفوع، وإضعاف حضور النساء في سوق العمل، ومفاقمة هشاشتهن الاقتصادية، وتحويل النجاة من مسؤولية عامة إلى مسؤولية فردية تتحملها النساء وحدهن تقريبًا. إنها عملية إعادة ترسيم للحياة نفسها، حيث يُعاد بناء المجتمع على أساس هياكل هشّة تتحمل فيها النساء العبء والكلفة الأكبر.