MENA Fem Movement for Economical, Development and Ecological Justice

اقتصاد الحرب وإعادة إنتاج العنف في السودان

يقدّم السودان اليوم صورة مكثّفة لعنفٍ لم يعد ممكنًا فصله عن البنية التي أنتجته. فالمشهد هناك لا يختزل في مواجهة بين جيش وميليشيا، بل يكشف مسارًا أطول تُداخلت فيه سياسات الخصخصة مع اقتصاد الحرب، وتقدّم فيه رأس المال المسلّح إلى قلب الدولة، حتى بات الخراب نتيجة منطقية وليست استثناءً.
في الفاشر، تجلّى هذا المسار بأقصى درجاته. مدينة تآكلت تحت الحصار والجوع، ثم سقطت تحت هجوم دموي لم يترك مساحة للنجاة. المنازل التي كانت ملجأ للنازحين انقلبت مقابر، والمستشفيات، التي نجت سنوات بأعجوبة، انهارت أمام عنف منظم استهدف كل ما يُبقي الحياة ممكنة. وقد حملت النساء العبء الأثقل: أجسادهن ساحة للانتهاك، وحياتهن اليومية ميدانًا للصمود القاسي، وأدوارهن في الرعاية والنجاة تُستنزف بلا حدود.
غير أنّ هذا الخراب لم يولد مع الرصاص، بل سبقته سنوات طويلة من تفكيك الدولة تحت شعار “الإصلاح الاقتصادي”، وفتح البلاد أمام شبكات الاستثمار التي لا ترى البشر، وإدارة الموارد، وفي مقدّمها الذهب، عبر منظومات عابرة للحدود، غذّت الصراع بالسلاح والمال، وحوّلت السودان إلى سوق نشط للعنف المربح. ما نراه اليوم هو حصيلة منظومة واحدة، استخدمت الاقتصاد لإضعاف المجتمع، ثم استخدمت الحرب لإتمام ما بدأته السياسة.
ورغم هذا الانهيار الشامل، ظلّت النساء السودانيات يصنعن أشكال الحياة الممكنة وسط الرماد: شبكات إغاثة تنشأ من لا شيء، رعاية تُنظَّم خارج مؤسسات الدولة، ومساحات صغيرة للتوثيق والحماية والتضامن. تبدو هذه الأفعال بمثابة شهادة على عمق تخلّي المنظومة السياسية والاقتصادية عن البشر، وتسليمها الحياة اليومية إلى جهود غير مدفوعة وغير مرئية تقودها النساء.
يضعنا السودان أمام حقيقة مؤلمة: أنّ العنف ليس مجزرة تُرتكب فجأة، بل سلسلة تبدأ بميزانية تُقلَّص، وخدمة تُخصخص، وموارد تُنهب، وتنتهي بمدن تسقط ونساء يُتركن وحدهن في مواجهة الخراب. وما يحدث هناك ليس فعلًا منفصلًا عن واقع المنطقة، بل انعكاس صارخ للبنية ذاتها التي تتلاعب بالاقتصاد في بلد، وتبيع السلاح في آخر، وتُعيد صياغة الخراب وفق مصالحها.
ومع ذلك، يبقى السودان شاهدًا على قدرة الناس، ولا سيما النساء،على الحفاظ على معنى للحياة في قلب العتمة، وعلى إمكانية تخيّل مستقبل خارج سياسات التجويع والحرب والنهب. إنّ ما نراه ليس نهاية، بل كشفٌ لبداية ضرورة: تفكيك البنية التي جعلت العنف ممكنًا، وإعادة بناء الحياة بما يليق بكرامة البشر.